لا يَرضى الإنسان عن نفسه إلا إذا أحس بأنه جزء من منظومة كبيرة تشمل مجتمعاً أو فكرة سامية تمتد خارج نطاقه الشخصى وتستمر بعد وفاته، وقد تجسدَت تلك المنظومة تاريخياً فى عدة أشكال سنستعرض بعضها اليوم، إلا أن أغربها على الإطلاق كانت فكرة طُرحت فى أواخر القرن الثامن عشر إبان الثورتين الأمريكية والفرنسية، وهى فكرة الولاء للدولة والمسماة بالقومية أو الوطنية. وتُعرَّف تلك الدولة بقطعة أرض تحيطها حدود، فمن وُلد بداخل تلك الحدود يكون من أبناء البلد، ومن وُلِد خارجها حتى ولو كان بأمتار قليلة فهو من “الأجانب“.
وقد لخّص برنَرد شو تعريف القومية بكلمات وجيزة وحكيمة قائلاً “هى اعتقادك بأفضلية تلك الدولة عن كل الدول الأخرى لأنك ولدت بها!“
ويُخطىء من يتخيل وجود ذلك الولاء منذ الأزل، فهناك من الأدلة ما يعكس أن الشعوب القديمة “المُحتلة من قِبل الأجانب“ لم يكن يعنيها أكثر من مدى عدل الملك الجديد ومستوى ضرائبه انخفاضاً وارتفاعاً.. فلم يكترث المصريون مثلاً لكون حكامهم الهكسوس “لم يشربوا من ماء النيل“، وملوك الصعيد سقننرى وكامس وأحمس الذين حاربوهم فعلوا ذلك -على الأرجح- بهدف الإنتقام والتوسع لتستعيد أسرتهم نفوذها على الوجه البحرى مرة أخرى ولم تكن “حرب تحرير“ كما يحلو لنا أن نصورها.
ولعل ذلك يفسر سبب حكم البطالمة لمصر طوال 300 سنة والرومان طوال 700 سنة قبل دخولها تحت مظلة الخلافة دون مقاومة أي من تلك القوى ولا غيرها، فلم يكن يهتم أحد بجنسية الحكام لأن فكرة الإنتماء القومى لم تكن قد وُلدت أصلاً.
وفى حجاز الجاهلية وسائر المجتمعات غير النهرية كان الولاء للعائلة أو القبيلة باعتبارها صلة دم ونسب، وفى أوربا الإقطاعية كان الولاء للدوق أو اللورد الذى يعمل الأقنان عنده. وإن جرينا بالزمن لأيام الدويلات والممالك الإسلامية سنجد أن “جنسية“ الحاكم لم تكن واردة كذلك (بل إن الكلمة لم تُذكر فى المعجم بغير المعنى التناسلى)، حيث كان مدى شرعيته يتحدد بقدر تقواه الشخصية وإنتصاراته العسكرية و حُسن معاملته للرعايا.. فلم يعترض أحد فى مصر على صلاح الدين مثلاً لأنه “دخيل كردى“ أو علَى محمد علِى باعتباره “عميل ألبانى“، اللهم إلا لاحقاً فى مقررات المناهج الكاذبة والأفلام التاريخية المزيفة بعدما أُشربت قلوبنا بمعتقد “الوطنية“ الجديد الذى جاءنا به الخواجة فصرنا نطبقه ليس فقط على حاضرنا بل على ماضينا بأثر رجعى.
هذه هى الصور التى أخذها الولاء على مر التاريخ.. أما الولاء لرقعة من الأرض يتم تحديدها على أساس مدى نجاح الملوك القدامى فى فرض سيطرتهم على مساحة معينة مِثل توحيد مصر والنوبة على يد مينا أو توحيد السعودية على يد آل سعود أو حتى حدود رسمها المستعمر الأجنبى وأذنابه مِثل تلك الفاصلة بين مصر والسودان وبين العراق والكويت وبين إيران والبحرين وتفتيت الشام والمغرب العربى فهى فكرة غريبة - لدرجة السخافة - وطُبقت علينا وقتما طبقت إعمالاً لمبدأ فرّق تسُد.
كما أن نفوذ ملوك مصر القدامى على سبيل المثال تغير تاريخياً عشرات المرات ليشمل الصعيد والسودان أحياناً وسيناء والشام وليبيا أحياناً أو ينكمش ليقتصر على الوادى فقط أحياناً أخرى، وما منا مَن لا تجرى فى عروقه أحد الدماء المختلطة من الأناضول شمالاً حتى النيل الأزرق جنوباً ومن الحجاز شرقاً حتى بدو الصحراء غرباً، فمن يمكنه تحديد الأبعاد الجغرافية للرقعة التى يجب علينا أن نواليها اليوم ولا نوالى سواها؟
المضحك المبكى أن الخواجة مخترع القومية شرع الآن بتخطِّى تلك المرحلة، فبدأ ولاء الأوربيين على اختلاف ألسنتهم وتاريخهم ومذاهبهم يتجه للقارة بأسرها على ما تواجهها من أزمات اقتصادية، وولاء الغربيين عموماً يتجه للتحالف الصليبى الجديد شديد البأس “حِلف النيتو“ متمثلاً فى كتلة أمريكا وأوربا، بينما لم يزل العرب والمسلمين غارقين فى مستنقع الوطنية كما كان الأوربيين فى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فمازلنا نتبرأ من بنى جلدتنا وإخواننا فى الدين واللغة والثقافة والتاريخ على أساس مكان الولادة وألوان العلم وأنغام النشيد. فإن احتل أحد فلسطين أو أفغانستان فهذا ليس شأنى لأننى “مصرى“، ولا أقبل أن يحكمنى سورى أو أردنى -أو حتى مصرى ذو أب سورى أو أم أردنية- باعتباره “أجنبى“.. وهذا أشبه بأحد يحتل الإسكندرية فأقول هذا ليس شأنى مادام لم يهدد القاهرة أو أرفض أن يحكمنى منوفى على أساس أنه “ليس قاهرياً“.
إن القومية تنسلخ اليوم من صورتها اللامعة لتظهر على حقيقتها كفكرة بالية لامنطقية من مخلفات الماضى عفى عليها الزمن، وقد حان وقت تحررنا منها للأبد فى زمنٍ يتحول فيه العالم شرقاً وغرباً لاتحادات متماسكة حتى خطَت أمريكا الجنوبية على درب أختها الشمالية مقتربة من إنشاء اتحاد يلم شملها، وأمست أوربا على مشارف إختيار رئيس لها فضلاً عن وحدتها العسكرية والتجارية والتنقلية من قبل.
وها هو قد نهض التنين الصينى وانطلق النمر الهندى وتعافى الدب الروسى وحلَّق الصقر الأمريكى والتفّت النجوم الأوربية فى عصر التكتلات العملاقة الذى يُداس فيه الأقزام، بينما ظلت أمتنا مبعثرة يلفح كل فرقة من أبنائها الغرور الطفولى والتفاخر الكاذب.. فإلى متى؟